جغرافيا صغيرة بحجم قارة
رغم أن مساحة لبنان لا تتعدى 10 آلاف كيلومتر مربع من اليابسة وحوالي 19 ألف كيلومتر مربع من المساحات البحرية، إلا أن تنوّعه الطبيعي يفوق مساحته بكثير. من غابات الأرز المكللة بالثلوج إلى الكهوف الكارستية، ومن الأراضي الرطبة الداخلية إلى السواحل البحرية، يشكّل لبنان فسيفساء بيئية متكاملة.
وفقاً لتحديث قاعدة بيانات المحميات العالمية (WDPA) الصادر في آب/أغسطس 2025، يضم لبنان 53 منطقة محمية. من بينها 44 منطقة تحمل تصنيفات وطنية مثل “المحميات الطبيعية” أو “الحِمى”، في حين تحظى مناطق أخرى باعتراف إقليمي ودولي مثل مواقع رامسار للأراضي الرطبة ومحميات المحيط الحيوي التابعة لليونسكو.
اللافت في التجربة اللبنانية هو إدراج نظام الحِمى التقليدي – وهو ممارسة مجتمعية تعود إلى مئات السنين – في قاعدة البيانات العالمية إلى جانب التصنيفات الحديثة. وبذلك، يُعد لبنان من الدول القليلة التي نجحت في دمج التراث الثقافي مع أدوات الحماية الدولية.
الأرقام تتحدث
تكشف الأرقام عن صورة مزدوجة:
-
المساحات البرية والمياه الداخلية المحمية تبلغ 1,247 كلم²، أي ما يعادل 12.2% من المساحة البرية. هذه النسبة تُعتبر قريبة من الهدف العالمي القديم (اتفاقية أيشي) الذي حدد سقف 17%.
-
أما في البحر، فالوضع مقلق. من أصل 18,857 كلم² من المساحات البحرية والساحلية، لا يغطي الحماية سوى 44 كلم²، أي ما نسبته 0.23% فقط. هذا العجز يترك النظم البيئية البحرية عرضة للصيد الجائر وتدمير الأعشاب البحرية وتهديد السلاحف والفقم المتوسطية.
-
من حيث فعالية الإدارة، لم تُجرَ سوى تسع تقييمات لإدارة المحميات، أي ما يغطي 1.18% من المناطق البرية و0.21% من المناطق البحرية. بمعنى آخر، معظم المحميات تعمل دون تقييم منهجي لمدى نجاحها في تحقيق أهدافها.
التصنيفات وأنماط الحوكمة
بحسب تصنيفات الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN)، نصف المحميات في لبنان تقريباً (50.94%) تقع ضمن الفئة السادسة، أي تسمح بالاستخدام المستدام للموارد. فيما تشكّل المحميات المصنّفة كـ “مناطق برية” (الفئة Ib) حوالي 32%. أما البقية فهي إما غير مصنفة أو غير مبلّغ عنها.
أما على صعيد الحوكمة، فالمشهد أكثر تنوعاً: 28 محمية تُدار بشكل تشاركي بين الدولة والمجتمعات أو المنظمات، بينما 19 محمية تُدار بتفويض حكومي، وهناك بعض المحميات التي تخضع لإدارة منظمات غير ربحية أو غير محددة.
هذا التنوع يعكس واقع البيئة اللبنانية: إدارة لامركزية فيها فرص لتعزيز المشاركة المحلية، لكنها تحمل مخاطر غياب المعايير الموحدة والمساءلة.
من المحلي إلى العالمي: قاعدة بيانات WDPA وأداة OECM
وجود هذه المحميات في لبنان ليس مجرد شأن محلي، بل هو جزء من النظام العالمي الذي تمثله قاعدة بيانات المحميات العالمية (WDPA)، وهي المرجع الأشمل للمحميات البرية والبحرية، وتدار من قبل برنامج الأمم المتحدة للبيئة – مركز مراقبة المحافظة على الطبيعة (UNEP-WCMC) بالتعاون مع الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة.
منذ عام 2019، أُضيف إلى هذه القاعدة مفهوم جديد هو “إجراءات الحفظ الفعّالة الأخرى” (OECMs)، وهي مناطق لم تُخصَّص أساساً للحماية لكنها تحقق فوائد بيئية طويلة الأمد، مثل الغابات المقدسة أو الأراضي المجتمعية أو حتى مناطق عسكرية محدودة الوصول.
حتى الآن، لا يبلّغ لبنان عن أي OECMs، رغم أن نظام الحِمى التقليدي وغيره من المبادرات المجتمعية قد يندرج ضمن هذا التصنيف. إدراج هذه النماذج يمكن أن يرفع إحصاءات لبنان ويعكس الواقع بشكل أوضح.
قصص نجاح: الأرز، الأراضي الرطبة، والسواحل
رغم التحديات، هناك محميات لبنانية تُعتبر نماذج ملهمة:
-
محمية الشوف للمحيط الحيوي: أكبر محمية في لبنان، تحمي غابات الأرز الشهيرة وتشكل 5% من مساحة البلاد. هي ليست فقط ملاذاً للطبيعة بل أيضاً منصة للسياحة البيئية والتنمية المحلية.
-
مستنقع عمّيق: موقع رامسار وأحد آخر الأراضي الرطبة الداخلية في لبنان. بعد أن كان مهدداً بالتجفيف والتلوث، أصبح اليوم محطة رئيسية للطيور المهاجرة.
-
محمية صور الساحلية: واحدة من قلة من المحميات البحرية، تضم شواطئ لتكاثر السلاحف المهددة بالانقراض، وتواجه ضغوطاً من العمران الساحلي.
هذه الأمثلة تبرهن على أن التلاقي بين الاعتراف الدولي والمشاركة المحلية والإدارة العلمية يمكن أن يُنتج نجاحات حقيقية.
التحديات القائمة
لكن التحديات كبيرة:
-
الفجوة البحرية: تغطية 0.23% فقط من السواحل والبحار يعني أن لبنان بعيد جداً عن هدف “30×30” العالمي (حماية 30% من البر والبحر بحلول 2030).
-
فعالية الإدارة: غياب الخطط الإدارية والتقييمات المنتظمة يجعل بعض المحميات مجرد “حبراً على ورق”. الصيد الجائر وقطع الأشجار والتلوث مستمرة.
-
شفافية البيانات: لبنان يقيّد الوصول إلى بيانات 45 محمية بداعي الحساسيات. هذا يحدّ من الشفافية والتعاون الدولي، رغم أن قاعدة WDPA تضع معايير واضحة للتوثيق.
-
الاضطرابات السياسية والاقتصادية: انهيار الاقتصاد والأزمات السياسية تجعل البيئة أولوية ثانوية، وتؤدي إلى نقص التمويل والموارد البشرية.
المجتمع المدني كخط الدفاع الأخير
في ظل هذه التحديات، يبرز دور المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية. فقد أعادت جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) إحياء نظام الحِمى، ما جعل الحماية البيئية جزءاً من الهوية المحلية.
إن نموذج الحوكمة التشاركية، وهو الأكثر انتشاراً في لبنان، يمكن أن يكون الأساس لمستقبل أفضل: إشراك البلديات والتعاونيات والمنظمات الأهلية يضمن أن الحماية ليست مفروضة من فوق بل نابعة من الناس أنفسهم.
الطريق إلى 2030: من 12% إلى 30%
المطلوب في السنوات القادمة هو قفزة نوعية:
-
توسيع المحميات البحرية على طول السواحل ذات الأهمية البيئية.
-
الاعتراف بإجراءات OECMs مثل الحِمى وإدراجها رسمياً في التقارير الدولية.
-
تعزيز فعالية الإدارة عبر خطط واضحة وتقييمات منتظمة.
-
الاستفادة من الشراكات الدولية لجذب التمويل والدعم الفني.
خاتمة: فسيفساء لبنانية للحماية
المحميات في لبنان ليست مجرد مناطق بيئية، بل هي فسيفساء تجمع بين الإرث الثقافي والتزامات لبنان الدولية والمبادرات المجتمعية. إنها قصص صمود في بلد أنهكته الأزمات، لكنه لا يزال متمسكاً بأرزاته وأراضيه الرطبة وسواحله.
تُظهر بيانات WDPA تقدماً – حماية 12.2% من البر و53 موقعاً معترفاً – لكنها تكشف أيضاً فجوات كبيرة، خاصة في البحر. والمستقبل يتطلب مزيجاً من الحكمة التراثية والدقة العلمية، لضمان أن يصبح الحفاظ على الطبيعة جزءاً أساسياً من تعافي لبنان الوطني.
كما يقول المثل اللبناني: “من غرس شجرة، أحب غيره إلى جانبه.” إن حماية الطبيعة اليوم هي وعد للأجيال القادمة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.