الحِمى: من ذاكرة الحرف إلى الحوكمة البيئية المعاصرة

اربعة الاف من إدارة الموارد الطبيعية

الكاتب بلال علوية

إنَّ الحِمى ليس اختراعًا طارئًا أو ممارسةً تاريخيةً معزولة، بل هو طبقة سطحية فوق بنيةٍ عميقة تتكوّن من تراكبٍ متواصل بين ذاكرةٍ حروفيةٍ سينائية، وتجربةٍ سبئيةٍ مائية–مؤسسية، ثم تبلورٍ عربي–إسلامي للحوكمة البيئية.
وعليه، فإن إحياء الحِمى اليوم عبر المبادرات الحديثة، كما تقودها جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL)، لا يُمثّل مجرّد أداة معاصرة لإدارة الموارد، بل هو استمرارٌ واعٍ لمسارٍ حضاري ممتدٍّ لما يقارب أربعة آلاف عام.

ومن هذا المنظور، يمكن قراءة تطوّر مفهوم الحِمى عبر أربعة مستويات تاريخية مترابطة:

أولًا: مستوى الحرف

السينائي البدائي، تقريبًا 1900–1500 ق.م

تتجلّى البنية الأولى للجذر ح–م–ى في الكتابة السينائية البدائية من خلال الدلالات التصويرية للحروف:

  • ح = سياج / حدّ
  • م = ماء / حياة
  • ي = يد / سلطة

وبذلك ترسم بنية الجذر نفسها معادلةً مفهومية واضحة:
حدٌّ يحمي الماء بفعل السلطة.

ويُفهم هذا المعنى من أصول الحروف ، m، y في النظام السينائي البدائي الذي تطوّر بين القرن التاسع عشر والقرن السادس عشر قبل الميلاد، أي منذ نحو 3500–3900 سنة من الزمن الحاضر.

ثانيًا: مستوى اللغة السبئية

(ازدهار سبأ تقريبًا 800 ق.م – 275 م)

في جنوب الجزيرة العربية، وضمن السياق المؤسسي لمملكة سبأ، يظهر الجذر بصيغة واضحة:

مَحْمَى (𐩣𐩢𐩣𐩺) اللغة السيئية


بمعنى: مجال محمي / محرَّم.

ويبرهن هذا الاستعمال أن الجذر ح م ي كان يعمل دلاليًا في حقل الحماية والمنع قبل تبلوره في العربية الكلاسيكية، ضمن نظام إداري–مائي مرتبط بتنظيم الموارد.
وقد ازدهرت مملكة سبأ تقريبًا من القرن الثامن قبل الميلاد حتى القرن الثالث الميلادي، أي منذ حوالي 2300–2800 سنة حتى اليوم.

ثالثًا: مستوى العرب والإسلام

(من القرن الأول الميلادي حتى اليوم، مع تبلور فقهي من القرن السابع)

في السياق العربي الجاهلي، استُخدم مفهوم الحِمى لحماية المراعي وزِمام المياه لصالح زعماء القبائل.
ومع ظهور الإسلام، انتقل الحِمى من أداة قبلية إلى نظام فقهي–إداري يخضع للمصلحة العامة والشرع، منذ عهد النبي محمد ﷺ في القرن السابع الميلادي، مع حِمى المدينة والموارد المخصصة للصدقات والخيالة.

ثم توسّع التنظير الفقهي للحِمى في القرون من الثامن إلى الحادي عشر الميلادي وما بعدها، ليشكّل ما يقارب 1400 سنة من التفكير المؤسسي المستمر حول حماية الموارد الطبيعية.

رابعًا: مستوى الحاضر

(SPNL )والقرنان العشرون والحادي والعشرون

في العصر الحديث، تعيد SPNL وصل هذه السلسلة التاريخية–اللسانية–الروحية عبر تحويل الحِمى إلى إطار عملي للحوكمة البيئية المجتمعية في لبنان والعالم العربي.
ومنذ أواخر القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين، أعيد إحياء نموذج الحِمى في مواقع مثل عنجر، كفرزبد ابل السقي وغيرها ليصل العدد اكثر من اربعين جمى على كامل الاراضي اللبنانية، في مقاربة تربط بين:

  • النص اللغة،
  • النقش السبئي
  • والواقع (إدارة الموارد والعدالة الإيكولوجية.

وبذلك يُمنح المفهوم حياة جديدة بعد ما يقارب 2000 عام من آخر تجلٍّ سبئي مباشر له.

الخلاصة

يُستنتج من هذا المسار أن كلمة «حِمى»، في معناها العميق، تنحدر من:

  1. الجذر السامي الأصيل (ح م ي)، المشترك بين اللغات السامية المبكرة، والذي تظهر آثاره التصويرية الأولى في الكتابة السينائية البدائية (سياج – ماء – يد) بين القرن التاسع عشر والقرن السادس عشر قبل الميلاد، أي قبل نحو 3.5–3.9 ألف سنة.
  2. البيئة الجنوبية العربية القديمة، ولا سيما السبئية، التي استعملت صيغًا مثل م (مَحْمَى (𐩣𐩢𐩣𐩺) للدلالة على المكان المحمي أو المحرَّم خلال فترة ازدهار سبأ (800 ق.م – 275 م).
  3. ثم العرب والمسلمون الذين ورثوا المفهوم وطوّروه اصطلاحيًا ومؤسسيًا منذ القرن السابع الميلادي فصاعدًا، ليصبح نظامًا متكاملًا لحماية المراعي والمياه.

وتُستعاد روح هذا النظام اليوم عبر مبادرات SPNL في القرن الحادي والعشرين، ضمن مسارٍ تاريخي متصل يقارب أربعة آلاف عام، ليتطوّر الحِمى إلى نموذج «Smart Hima» بوصفه امتدادًا معرفيًا وتقنيًا للحوكمة البيئية التقليدية، لا قطيعة معها، حيث تُدمَج القيم الأخلاقية والمؤسسية للحِمى مع أدوات العصر الحديثة، من نظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بُعد والرصد البيئي الرقمي، إلى اتخاذ القرار المبني على البيانات والمشاركة المجتمعية، بما يحوّل الحِمى إلى نظام حيّ قابل للقياس والتكيّف مع تحديات تغيّر المناخ وفقدان التنوع الحيوي والعدالة البيئية.

كيف وصلنا إلى رقم أربعة آلاف عام؟

التسلسل الزمني لنظام الحِمى

لإظهار الامتداد الزمني لنظام الحِمى بصورة دقيقة ومنهجية، لا تُجمع المراحل التاريخية جمعًا حسابيًا متراكمًا، بل يُنظر إليها بوصفها محطّات متعاقبة ضمن خط زمني واحد متصل يبدأ من أقدم ظهور رمزي للفكرة وينتهي في العصر الحاضر.

🔹 المرحلة الأولى: التأسيس الرمزي (السينائية البدائية)

من 1900 ق.م إلى 800 ق.م = 1100 سنة
تمثّل هذه الفترة أقدم ظهور موثّق للوعي الرمزي المرتبط بالحماية وتنظيم الموارد، كما يتجلّى في الكتابة السينائية البدائية عبر الدلالات التصويرية للحروف (سياج – ماء – يد)، أي تشكّل فكرة الحِمى قبل تحوّلها إلى نظام مؤسسي.

🔹 المرحلة الثانية: التنظيم المؤسسي (السبئية)

من 800 ق.م إلى 275 م = 1075 سنة
في هذه المرحلة، ومع تشكّل مملكة سبأ في جنوب الجزيرة العربية، انتقل مفهوم الحِمى من مستوى رمزي إلى نظام مائي–إداري مكتوب، مرتبط بإدارة الأراضي والمياه، وتظهر في النقوش مصطلحات مثل مَحْمَى (𐩣𐩢𐩣𐩺) هذه الكتابة السبئية  للدلالة على المجال المحمي أو المحرَّم.

🔹 المرحلة الثالثة: المرحلة الانتقالية العربية

من 275 م إلى 610 م = 335 سنة
تمثّل هذه الفترة مرحلة انتقالية بين نهاية النظام السبئي وبداية التبلور الإسلامي، حيث استمرّت أعراف الحِمى في السياق العربي، ولكن دون إطار فقهي موحّد.

🔹 المرحلة الرابعة: الحوكمة الإسلامية

من 610 م إلى 2025 م = 1415 سنة
تبلور الحِمى في هذه المرحلة كنظام فقهي–إداري يخضع للمصلحة العامة والضبط الأخلاقي، منذ بعثة النبي محمد ﷺ، واستمرّ تطوّره عبر القرون الإسلامية المختلفة وصولًا إلى العصر الحديث.

🔹 المرحلة الخامسة: الحاضر – Smart Hima (SPNL)

أواخر القرن العشرين – 2025 م (ضمن المرحلة الإسلامية)
في العصر المعاصر، يُعاد إحياء الحِمى وتطويره إلى نموذج Smart Hima عبر مبادرات جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL)، بوصفه إطارًا حديثًا للحوكمة البيئية المجتمعية المعتمدة على المعرفة والتقنية، دون قطيعة مع جذوره التاريخية والأخلاقية.

🔢 الحساب الزمني النهائي

  • 1100 سنة (السينائية)
  •  
    • 1075 سنة (السبئية)
  •  
    • 335 سنة (المرحلة الانتقالية)
  •  
    • 1415 سنة (الإسلامية حتى 2025)

المجموع = 3925 سنة
ويُعبَّر عنه أكاديميًا بعبارة: حوالي أربعة آلاف عام من التطوّر المتصل لنظام الحِمى.

 

الخلاصة المنهجية

يُظهر هذا التسلسل أن الحِمى تطوّر عبر مسار حضاري واحد متصل، بدأ كفكرة رمزية، ثم تحوّل إلى نظام مؤسسي، وتبلور في إطار إسلامي أخلاقي، ويُعاد اليوم توظيفه كنموذج حوكمة بيئية ذكية حتى عام 2025.

الكاتب

بلال علوية

خبير ومجاز في نظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بُعد، ومتخصص في الحوكمة البيئية وإدارة الموارد المائية والتحليل الجغرافي-المكاني. يركّز عمله على دمج المنهجيات المكانية المتقدمة مع التحليل التاريخي واللغوي والثقافي، بهدف إعادة قراءة كيفية إدارة الحضارات القديمة للاستدامة البيئية والاجتماعية، وتفعيل هذه الجذور المعرفية ضمن نماذج معاصرة للحوكمة البيئية، وفي مقدّمها إطار Smart Hima.

مجلة الحمى العدد السادس

أصدرت جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) العدد السادس من مجلة "الحمى"، والذي يركّز على المؤتمر العالمي لحماية الطبيعة التابع للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) المزمع عقده في أبوظبي بين 8 و15 تشرين الأول 2025، حيث ستشارك الجمعية في أربع جلسات رئيسية. يتضمّن هذا العدد مقابلة حصرية مع رئيسة الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، رزان المبارك، التي شدّدت على أهمية مواءمة عمل الاتحاد مع الأجندات العالمية للتنوّع البيولوجي، وتعزيز الحوكمة والاستجابة لاحتياجات الأعضاء، وتفعيل الانخراط المتعدد الأطراف، وضمان الاستخدام الأخلاقي للتكنولوجيا، ورفع أصوات المجتمعات المتنوعة في مسيرة حماية الطبيعة.

اقرأ الأعدادَ السابقة

spot_img
spot_img

تصفح المزيد

من التوعية إلى الشراكة، كيف تتحوّل مكافحة الصيد الجائر...

في قلب البقاع الشمالي، حيث تتقاطع الطبيعة مع نمط عيش المجتمعات المحلية، احتضن اتحاد بلديات دير الأحمر...

حين تلتقي الحكمة القديمة بسرد القصص القصيرة كيف قدّم...

في عالم رقمي تحكمه السرعة ويقاس فيه النجاح بعدد الثواني، ينجح بعض المحتوى في إيقاف التمرير وإجبارنا...
By Bilal Alaouiyeh, Remote Sensing and GIS Expert, Specialist in Spatial Environmental Governance and Biodiversity Mapping.

الحِمى في الذاكرة المكانية للبنان

قراءة الماضي من خلال الخرائط الطبوغرافية في ستينيات القرن الماضي وإعادة اكتشاف مشاهد الحماية التقليدية بقلمبلال علويّهخبير في...