همسة ربيع: عودة طائر الشفشافة إلى بيروت

مع شروق الشمس فوق مياه الواجهة البحرية المتلألئة في بيروت صباح السادس والعشرين من آذار، تردّد صوت ناعم وإيقاعي في نسمات الساحل. “تشيف-تشاف… تشيف-تشاف…” وبالنسبة للراصد الطيور المخضرم شادي سعد، لم يكن هناك أدنى شك في هوية هذا الصوت – إنه إشارة خفيفة لكنها قوية على قدوم الربيع. بين أغصان النباتات القليلة المنتشرة على طول الكورنيش، كان طائر صغير بني الزيتوني يتحرك بخفة من غصن إلى آخر. إنه طائر الشفشافة الشائعة (Phylloscopus collybita)، زائر خجول لكن عنيد في رحلته الطويلة عبر الهجرة الموسمية.

زائر موسمي ذو جذور عالمية

الشفشافة الشائعة طائر صغير، لكنه يحمل في جعبته قصة كبيرة. يتكاثر في شمال ووسط أوروبا وآسيا المعتدلة، ويسافر آلاف الكيلومترات كل عام ليقضي الشتاء في مناخات أكثر دفئًا، كجنوب أوروبا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وعلى الرغم من مظهره المتواضع – بريش باهت وخط عيني بالكاد يُلاحظ – فإنه من بين أكثر الطيور المهاجرة انتشارًا وقدرة على التحمّل.

وبحسب منظمة بيردلايف إنترناشونال (BirdLife International)، فإن الشفشافة الشائعة تتأقلم في بيئات متنوعة: من الغابات الرطبة إلى الحدائق الحضرية. وظهورها في مدينة كـبيروت هو دليل على الدور الحيوي للمنطقة على مسار هجرة الطيور شرق المتوسط، ورسالة صامتة عن التنوع البيولوجي الذي غالبًا ما يكون مختبئًا وسط صخب المدن.

الطبيعة في قلب المدينة

قد لا تبدو الواجهة البحرية لبيروت وجهة نموذجية لمراقبة الطيور. فهي محاطة بمواقع البناء والطرقات المزدحمة، وتعكس في ظاهرها ملامح التوسع الحضري السريع. لكنها، بالنسبة للطيور المهاجرة مثل الشفشافة، تشكل واحة مؤقتة وملاذًا بعد ساعات طويلة من التحليق عبر البحر والصحراء.

يقول شادي سعد، الذي وثّق هذه اللحظة بكاميرته: “رأيت هذا الطائر من قبل، لكن رؤيته هنا، وسط مدينة بيروت، كانت لحظة سحرية. تذكير بسيط بأن الطبيعة دائمًا ما تجد طريقها – إذا منحناها الفرصة”.

لماذا طائر الشفشافة مهم؟

رغم أن الشفشافة الشائعة مصنّفة حاليًا كـ”أقل الأنواع قلقًا” من حيث الانقراض، بحسب الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN)، إلا أن استمراره يعتمد على صحة النُظم البيئية التي يعتمد عليها في الهجرة والتكاثر. فالتغيّر المناخي، وإزالة الغابات، والتوسّع الحضري عوامل تهدد الموائل التي تعتمد عليها الطيور المهاجرة.

وتُعد لبنان، على صغر مساحتها، ذات أهمية بيئية كبرى، كونها تقع مباشرة على واحد من أهم مسارات هجرة الطيور في العالم. يمرّ فوق سمائها سنويًا أكثر من 300 نوع من الطيور. ومع ذلك، فإن فقدان المواطن الطبيعية يجعل من الضروري تسليط الضوء على مواقع مثل الواجهة البحرية لبيروت كملاذات بيئية محتملة.

دعوة للرؤية… ودعوة للعمل

أغنية الشفشافة ليست مجرد ترنيمة موسمية، بل دعوة للتأمّل، وللاحتفاء وحماية التنوع البيولوجي الذي لا يزال نابضًا في مدننا. وبالنسبة للناشطين البيئيين والمخططين المدنيين والمواطنين على حد سواء، فإن مثل هذه المشاهدات تمنحنا فرصة لإعادة تصور العلاقة بين الطبيعة والمدينة.

“الطيور مثل الشفشافة الشائعة هي مؤشرات على صحة البيئة”، يشرح أحد علماء الطيور المحليين. “وجودها – أو غيابها – يخبرنا الكثير عن حال النُظم البيئية المحيطة بنا”.

وقد انتشر مقطع الفيديو الذي صوّره شادي على وسائل التواصل الاجتماعي، وأثار الفضول والإعجاب. وربما، مع كل مشاهدة ومشاركة، سيبدأ المزيد من الناس بالانتباه إلى العجائب التي تحوم من حولهم.

أغنية لا تُنسى

بينما يستمر أفق بيروت في التغيّر، وتتبدل نسمات المتوسط مع تبدّل الفصول، تبقى أغنية طائر الشفشافة الشائعة ترن في الأفق – نغمة هشة لكنها مُلحّة في سمفونية المدينة المزدحمة. وبفضل عين شادي سعد اليقظة وشغفه بالطبيعة، تم توثيق هذه الأغنية ونقلها للناس.

وربما، فقط ربما، ستلهم الآخرين للاستماع أيضًا.

مجلة الحمى العدد الخامس

في هذا العدد من مجلة الحمى، ننسج معًا قصصًا ملهمة عن حماية الطبيعة وصمود المجتمعات، مسلطين الضوء على كيف يُعاد ترميم لبنان... حمى تلو الأخرى. تواصل جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) مهمتها في الحفاظ على التراث الطبيعي للبلاد من خلال تمكين المجتمعات المحلية. ومن الركائز الأساسية لهذا الجهد مشروع BioConnect المموّل من الاتحاد الأوروبي، والذي حقق ثلاث سوابق وطنية: أول منتزه طبيعي في لبنان (المتن الأعلى)، وأول منتزه جيولوجي (الشوف – جزين)، وأول حمى وقفية (بتخنيه).

اقرأ الأعدادَ السابقة

spot_img
spot_img

تصفح المزيد

Grey-breasted Parakeets © Fábio Nunes / Aquasis

كيف تُشكّل بيردلايف إنترناشونال وبرنامج القيادة في مجال الحفاظ...

في غابات البرازيل الشمالية الشرقية، عاد ببغاء نادر إلى التحليق بعد أن كان مهددًا بالانقراض. وعلى بُعد...
"Aammiq Wetland, one of the last remaining freshwater wetlands in Lebanon, serves as a vital stopover for migratory birds and a haven for biodiversity in the Bekaa Valley." Photo credit:Spyro Klitira

حُماة الطبيعة: كيف تكافح المحميات الطبيعية في بلاد الشام...

في مهد الحضارات القديمة، حيث غيّرت الحروب والثورات والحدود المتقلبة معالم الأرض والتاريخ، تخوض الطبيعة معركتها الخاصة...

فصيلة القلمون توقف صياد بالشباك والدبق ومدعي عام الشمال...

بناءً على شكوى تقدّم بها عدد من الصيادين المستدامين في شمال لبنان إلى وحدة مكافحة الصيد غير...