حُمـاة عنجر: شباب يحوّلون الأراضي الرطبة إلى صفوف مفتوحة للسياحة البيئية والسلامة

مع إشراقة شمس الصباح في عنجر، يتلاشى الضباب عن الغابات الصغيرة والمسطحات المائية، كاشفًا فسيفساء من الجداول والقصب حيث تحلّق اليعاسيب وتنهض طيور البلشون البيضاء في الأفق. هذا المشهد الطبيعي النابض بالحياة ليس فقط إرثًا بيئيًا فريدًا في البقاع، بل أصبح اليوم مدرسة حيّة يتعلم فيها الشباب كيف يحمون بيئتهم ويستفيدون منها بشكل مستدام.

في إطار مشروع PROZHUM المموّل من الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD)، نُظّمت جلستان تدريبيتان لبناء قدرات حُمـاة الحِمى في عنجر، ركّزتا على موضوعين مترابطين: السياحة البيئية والإسعافات الأولية. وقد أدار التدريب الميداني حمادة ملعِب بدعم من مديرة المشروع فاطمة حايك، وجمعا مجموعة من الشباب المحليين الذين باتوا يُنظر إليهم كحماة للأراضي الرطبة، وقادة محتملين لمسار التنمية المستدامة في مجتمعهم.

السياحة البيئية: قصة تُروى على الدروب

في الجلسة الأولى، تعرّف المشاركون على مبادئ السياحة البيئية وكيفية إعداد مسارات للزوار تتناسب مع حساسية النظام البيئي. انطلقوا من أسئلة عملية: أين يجتمع الزوار قبل الجولة؟ كيف نمنع الاقتراب من مناطق أعشاش الطيور؟ ما هي القصة التي نرويها لتربط بين التنوع البيولوجي وسبل عيش المجتمع المحلي؟

مارس الشباب دور المرشد السياحي بأنفسهم: التقطوا إشارات الطبيعة، مثل دلالة وجود الرفراف الأزرق على نظافة المياه، أو دور النباتات الأصلية في تثبيت ضفاف الجداول وحماية الأراضي الزراعية. وبذلك تحوّل المكان إلى كتاب مفتوح، كل صفحة فيه تحمل درسًا عن التوازن بين الطبيعة والإنسان.

الإسعافات الأولية: السلامة جزء من الحماية

الجلسة الثانية كانت مخصصة للإسعافات الأولية، حيث تدرّب الشباب على التعامل مع الحوادث المحتملة في المواقع الطبيعية: انزلاقات، جروح بسيطة، ضربات شمس، أو حتى الإخلاء الآمن على مسارات ضيّقة. تعلّموا كيف يجهّزون حقيبة إسعاف صغيرة للمرشد، وكيفية تنظيم استجابة هادئة تمنع الذعر وتحافظ على سلامة الزوار والبيئة في آن واحد.

هذه المهارات تعزز صورة المرشد كحامٍ للطبيعة: فالتصرّف المنظّم لا يحمي الناس فقط، بل يحافظ على هدوء الموقع ويمنع الإضرار بالطيور أو النباتات نتيجة الازدحام والفوضى.

روح الحِمى: إدارة جماعية للأرض المشتركة

تقوم مقاربة الحِمى، التي أعادت جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) إحياءها، على مبدأ الإدارة المجتمعية للأراضي المشتركة. في عنجر، ظهر هذا المبدأ في القرارات الصغيرة: الاستعانة بمرشدين محليين يعرفون خصوصية الموقع، تحديد أوقات هادئة لمراقبة الطيور، تزويد الزوار بمنتجات محلية من مطابخ نسائية وأصحاب المزارع، بحيث تبقى الفوائد الاقتصادية داخل المجتمع.

التدريب ساعد الشباب على ترجمة هذه القيم إلى إجراءات ملموسة: قواعد سلوك للزوار، تحديد أعداد المجموعات، بنى تحتية منخفضة التأثير، وآليات بسيطة للرصد والتقييم.

شباب عنجر: من سكان إلى سفراء

الأثر الأبرز كان في بناء الثقة بالنفس. كثير من المشاركين عاشوا بجوار الأراضي الرطبة لكنهم لم يتصوروا يومًا أنهم قادرون على أن يكونوا مرشدين أو حماة لها. الآن، صاروا يخططون لجولات موسمية: من مشاهدة الطيور المهاجرة في الربيع، إلى التنزّه بين أزهار الخريف، وكل نشاط مرتبط بإجراءات سلامة ورواية بيئية.

هذا التدريب فتح أمامهم فرصًا جديدة: عمل جزئي في الإرشاد البيئي، تنظيم أنشطة مدرسية، إنتاج حرف ومأكولات محلية، وحتى فرص تدريب مع شركاء SPNL.

نحو خطة عمل مستمرة

لم يكتفِ الشباب بيومي التدريب، بل صاغوا خطوات عملية للاستمرار:

  • تنظيم مسارات واضحة للزوار مع إشارات توجيهية.

  • إعداد ميثاق سلوك للزوار يحث على عدم ترك نفايات واحترام هدوء الطبيعة.

  • تجهيز حقائب إسعاف مشتركة وخطة اتصال للطوارئ.

  • إنتاج مواد تعريفية وقصص عبر اللوحات والمنشورات الرقمية.

  • وضع سجل بسيط للزوار والحوادث والملاحظات البيئية لمراجعة الأداء دورياً.

أهمية هذه المبادرة

في وقت تواجه فيه الأراضي الرطبة في لبنان ضغوطًا من تغيّر المناخ واستنزاف المياه والتوسع العمراني، يقدّم نموذج عنجر رسالة واضحة: السياحة البيئية ليست مجرد نشاط ترفيهي، بل وسيلة للحماية، ورافعة للتنمية، ومجالًا لبناء هوية مجتمعية قائمة على الفخر والمسؤولية.

بفضل مشروع PROZHUM ودعم الوكالة الفرنسية للتنمية، أصبح شباب عنجر اليوم أكثر استعدادًا لأن يكونوا “حماة الحِمى” بالمعنى الكامل للكلمة: رواة للطبيعة، ومسعفين عند الحاجة، وسفراء لمستقبل أكثر استدامة.

مجلة الحمى العدد السادس

أصدرت جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) العدد السادس من مجلة "الحمى"، والذي يركّز على المؤتمر العالمي لحماية الطبيعة التابع للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) المزمع عقده في أبوظبي بين 8 و15 تشرين الأول 2025، حيث ستشارك الجمعية في أربع جلسات رئيسية. يتضمّن هذا العدد مقابلة حصرية مع رئيسة الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، رزان المبارك، التي شدّدت على أهمية مواءمة عمل الاتحاد مع الأجندات العالمية للتنوّع البيولوجي، وتعزيز الحوكمة والاستجابة لاحتياجات الأعضاء، وتفعيل الانخراط المتعدد الأطراف، وضمان الاستخدام الأخلاقي للتكنولوجيا، ورفع أصوات المجتمعات المتنوعة في مسيرة حماية الطبيعة.

اقرأ الأعدادَ السابقة

spot_img
spot_img

تصفح المزيد

حِمى كفريا… خطوة جديدة نحو بيئة أنظف ومستقبلٍ أخضر

في مبادرة بيئية مميزة تعكس روح الشراكة والمسؤولية المجتمعية، أعلنت جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) عن...

لبنان يرحّب بالحمى التاسعة والثلاثين: حمى صغبين تعزز الرابط...

في قلب البقاع الغربي الأخضر، وبين التلال الهادئة والينابيع المتدفقة، وُلدت حِمى جديدة تُضاف إلى سجل لبنان...

انسياب الضوء الخريفي: ثلاث أنواع من الخرشنة في عميق

في صباحٍ دافئ من شهر أيلول، وفي قلب محمية عميق الرطبة – آخر المستنقعات العذبة المتبقية في...