في مهد الحضارات القديمة، حيث غيّرت الحروب والثورات والحدود المتقلبة معالم الأرض والتاريخ، تخوض الطبيعة معركتها الخاصة — معركة من أجل البقاء.
دراسة رائدة أعدّها الباحثان براندون أنتوني وديان مطر، تقدّم لمحة نادرة وواقعية عن واقع المحميات الطبيعية في ثلاث دول عربية من منطقة المشرق: الأردن، ولبنان، وسوريا. أُجريت الدراسة خلال فترة “الربيع العربي”، ونُشرت كجزء من مبادرة أوسع في مجال علوم الحفاظ على البيئة، لتكشف نتائجها مزيجًا من القلق والأمل.
تنوعٌ حيويّ على المحك
تتمتّع سوريا ولبنان والأردن بتنوع حيوي استثنائي، حيث تقع ضمن حوض البحر الأبيض المتوسط الشرقي، المصنف عالميًا كمنطقة ساخنة من حيث التنوع البيولوجي. آلاف الأنواع من النباتات والحيوانات — كثير منها لا يوجد في أي مكان آخر في العالم — تزدهر في غابات الأرز، والمستنقعات، والسواحل، والجبال.
ورغم هذا الغنى الطبيعي، لم تبدأ هذه الدول الثلاث بالتركيز الجدي على حماية التنوع البيولوجي من خلال إنشاء محميات طبيعية إلا في العقود الأخيرة.
اعتمدت الدراسة 33 مؤشرًا لتقييم فعالية إدارة المحميات، وهي مستمدة من أطر تقييم دولية، لتكون أول دراسة مقارنة من نوعها في المنطقة.
الأردن: النجاح الصامت
جاء الأردن في صدارة الدول الثلاث. فمع تسع محميات معترف بها، تُدار سبع منها من قبل الجمعية الملكية لحماية الطبيعة، حقق الأردن نتائج أعلى بكثير من نظيرتيه ومن المعدل العالمي.
وقد استفاد الأردن من اعتماد أدوات تقييم منهجية مثل أداة تتبع فعالية الإدارة (METT)، مما ساعد في تطوير الإدارة بشكل مستمر وتكيفي.
لبنان: وعود هشة وجهود محلية
أما لبنان، فقد كشفت الدراسة عن تباين كبير في فعالية إدارة محمياته الثلاثة عشر. فبعضها، كـ”محمية الشوف”، يُعد نموذجًا يُحتذى به، بينما يعاني البعض الآخر من غياب واضح للبنية الإدارية والتمويل.
وسجّلت المؤشرات المتعلقة بالتخطيط والتصميم درجات عالية في لبنان، لكن التنفيذ العملي بقي معطلاً بسبب نقص الموارد، وعدم الاستقرار السياسي، والاعتماد الكبير على تمويل المشاريع الخارجية. وتبرز هنا أهمية دور المنظمات غير الحكومية والمجتمعات المحلية، التي كثيرًا ما ملأت الفراغ الذي تركته الدولة.
سوريا: عقدٌ ضائع من أجل الطبيعة
أما في سوريا، فقد واجه الباحثون صعوبة كبيرة في جمع البيانات نتيجة النزاع المستمر، ولم يتمكنوا سوى من تقييم ثلاث محميات من أصل 27 محمية معترف بها رسميًا — وهي الثلاث التي كانت قد استفادت من مشاريع دعم دولي.
وبالتالي، فإن ما ظهر من نتائج “إيجابية نسبياً” في سوريا قد لا يعكس الواقع الكامل، بل هو انعكاس جزئي للمواقع الأكثر دعمًا.
دروس مشتركة وحاجة ملحّة للتحرك
تشير الدراسة إلى أن أبرز نقاط القوة في الإدارة هي مرحلة “التخطيط” — أي التأسيس القانوني وتصميم المحمية. أما نقاط الضعف فتتمثل في ضعف التمويل، ونقص الكادر المؤهل، وتدهور القدرة على فرض القوانين.
العنصر الأضعف في التقييم كان “ترسيم حدود المحميات وتأمينها”، خصوصًا في لبنان وسوريا — ما يعكس الواقع الرمزي أحيانًا لكلمة “محمية” في المنطقة.
المفارقة أن المحميات الأقدم، أي تلك التي أُنشئت قبل سنوات عديدة، أظهرت نتائج أفضل — ما يُبرز أهمية الوقت والموارد لتطوير أنظمة فعّالة.
توصيات نحو حماية أفضل
قدّمت الدراسة عددًا من التوصيات العملية، أبرزها:
-
تطوير أدوات تقييم فعالية الإدارة في لبنان وسوريا، استنادًا إلى النموذج الأردني الناجح.
-
دمج قضايا التنوع البيولوجي في السياسات الوطنية، عبر فرض الالتزام بمتابعة الأداء في المحميات.
-
تمكين المجتمعات المحلية، حيث أظهرت الدراسة ارتباطًا قويًا بين مشاركة السكان وتحسين النتائج.
-
إضفاء الطابع القانوني على المحميات الحيوية، لضمان استمراريتها وإدماجها ضمن النظم الوطنية.
-
تعزيز التعاون الإقليمي بين الدول الثلاث لتبادل الخبرات وتوحيد المعايير.
في منطقة غالبًا ما يُنظر فيها إلى البيئة باعتبارها ترفًا أمام الأزمات السياسية، تشكّل هذه الدراسة صوتًا علميًا هادئًا لكنه صارخ: الطبيعة بحاجة إلى خطة إنقاذ. وما أظهرته الدراسة من أداءٍ متقدّم في الأردن، وجهود محلية مثمرة في لبنان، ونقاط بداية في سوريا، يثبت أن التقدّم ممكن — لكنه يتطلب إرادة ومأسسة.
في نهاية المطاف، تبقى المحميات في بلاد الشام شاهدةً صامتة على تحولات كبرى. وسؤال بقائها، هو في جوهره، سؤالٌ عن قدرتنا على التعلّم، التعاون، وتحقيق السلام — مع أنفسنا، ومع الأرض.