استضاف الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) جلسة رفيعة المستوى بعنوان «الحمى من أجل السلام: الإدارة المجتمعية والتمويل العمودي من أجل تعزيز مرونة النظم البيئية في المناطق»، وذلك ضمن أعمال المؤتمر العالمي لحفظ الطبيعة المنعقد في أبوظبي.
وجمعت الجلسة نخبة من الوزراء والخبراء وقادة البيئة لمناقشة كيفية توظيف مفهوم الحمى، أقدم نظام للحماية البيئية في التاريخ الإسلامي، كنموذج حديث للتنمية المستدامة وحفظ التنوع البيولوجي وبناء السلام في ظل التحديات البيئية والاجتماعية الراهنة.
وشارك في الجلسة كلٌّ من معالي أيمن سليمان، وزير البيئة في الأردن؛ معالي نزار هاني، وزير الزراعة في لبنان؛ معالي هاني الشاعر، المدير الإقليمي لمكتب الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة في غرب آسيا؛ محمود فتح الله، مدير إدارة بجامعة الدول العربية؛ أدريانا موريرا، مديرة ورئيسة قسم في مرفق البيئة العالمي؛ أمجد المهدي، المدير الإقليمي لصندوق المناخ الأخضر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا؛ وأسعد سرحال، المدير العام لجمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) ورئيس شراكة بيردلايف الشرق الأوسط.
الحمى: من الحكمة النبوية إلى الحماية الحديثة
استعرض أسعد سرحال في مداخلته الجذور الروحية والبيئية لمفهوم الحمى الذي يعود إلى عهد النبي محمد ﷺ، الذي أعلن مناطق معينة «حرماً» لا تُقطع فيها الأشجار ولا يُصاد فيها الصيد. وقال سرحال:
«تُعتبر الحمى من أقدم نظم الحماية البيئية في العالم، وهي إرث إنساني يجسد التعايش بين الإنسان والطبيعة، وما زالت حتى اليوم تلهم العالم في مسيرة العيش المستدام».
وأوضح أن الحمى تمثل نموذجاً لإدارة الموارد الطبيعية على أساس المشاركة المجتمعية والمسؤولية المشتركة، حيث تعتمد على المعرفة المحلية والعادات المتوارثة. وفي حين تركز المحميات الطبيعية الرسمية (المحمية) على الحماية الصارمة بإدارة حكومية، فإن الحمى تقوم على رعاية المجتمع المحلي للأرض واستخدامها بشكل مستدام، بما يضمن التوازن بين الإنسان والطبيعة.
تجديد الحمى في القرن الحادي والعشرين
سلّط سرحال الضوء على مسيرة جمعية حماية الطبيعة في لبنان في إحياء نظام الحمى منذ عام 2004، وتحويله إلى نموذج حديث يدمج بين المعرفة التقليدية والعلم الحديث، ويعزز المشاركة المجتمعية والمنافع المشتركة.
واليوم، تضم لبنان 38 حمى معترفاً بها رسمياً، تغطي ما يقارب 6% من الأراضي والمياه البحرية اللبنانية، وتشمل مناطق تُصنَّف كـ مناطق هامة للطيور والتنوع البيولوجي (IBAs) ومناطق رئيسية للتنوع البيولوجي (KBAs). ويساهم هذا النظام في تحقيق أهداف اتفاقية كونمينغ-مونتريال للتنوع البيولوجي وهدف 30×30 العالمي الرامي إلى حماية 30% من الأراضي والمحيطات بحلول عام 2030.
من حفظ الطبيعة إلى بناء السلام
شدّد سرحال على أن مفهوم الحمى لم يعد يقتصر على حفظ التنوع البيولوجي فحسب، بل أصبح أداةً لبناء السلام وتعزيز التماسك الاجتماعي. ففي مناطق تشهد تحديات سياسية وبيئية، أسهمت مبادرات الحمى في تشجيع الحوار والتعاون بين المجتمعات المحلية التي كانت متنازعة على الموارد الطبيعية.
وقال سرحال:
«الحمى ليست فقط لحماية الطيور والأشجار، بل لحماية العلاقات — بين الناس، وبين الأجيال، وبين الإنسان والأرض. إنها جسر يربط بين البيئة والسلام».
وأشار إلى أن مبادرة «الحمى من أجل السلام» التي تقودها الجمعية تعتمد على الحوكمة المحلية، ونقل المعرفة بين الأجيال، والتربية البيئية من أجل تعزيز التعايش والمرونة في وجه الأزمات.
تمكين المجتمعات المحلية
قدّم سرحال خلال الجلسة أمثلة حيّة عن أثر نموذج الحمى في التنمية المحلية المستدامة:
-
حمى عنجر وكفرزبد — مشروع ناجح لإعادة تأهيل الأراضي الرطبة باستخدام تقنيات ريّ مستدامة، استفاد منه بشكل مباشر أكثر من 2000 شخص من خلال السياحة البيئية والتعليم وفرص العمل الخضراء.
-
مشروع BioConnect — مبادرة ممولة من الاتحاد الأوروبي تهدف إلى تعزيز الترابط البيئي بين 17 بلدية في جنوب لبنان، وتحسين إدارة الموارد الطبيعية وخلق فرص عمل محلية.
-
مشروع الحديقة الطبيعية لوادي نهر بيروت الأعلى — أول حديقة طبيعية مقترحة في لبنان بمساحة 70 كيلومتراً مربعاً يستفيد منها أكثر من 175 ألف نسمة، وتجمع بين نموذج الحمى التقليدي ومبادئ الإدارة البيئية الحديثة.
التحديات وآفاق المستقبل
تحدث سرحال عن أبرز التحديات التي تواجه الإدارة المجتمعية للموارد الطبيعية، ومنها التدهور البيئي، والتمدد العمراني، وضعف الحوكمة البيئية. ومع ذلك، أكد أن نموذج الحمى بمرونته ومبناه التشاركي يقدم منهجاً حيوياً لإدارة الموارد بشكل عادل ومستدام.
«الحمى تمكّن الناس من أن يكونوا أوصياء على أرضهم. فعندما نثق بالمجتمعات لتدافع عمّا تحب، تصبح أقوى حماة للطبيعة»، ختم سرحال حديثه.
وفي الختام، شدّد المشاركون على أن إحياء نموذج الحمى يمثل فرصة حقيقية لإرساء العدالة البيئية، وتعزيز الترابط بين الإنسان والطبيعة، وتحويل المعرفة التراثية إلى حلول معاصرة في مواجهة أزمة المناخ وفقدان التنوع البيولوجي.