الحِمى في الذاكرة المكانية للبنان

قراءة الماضي من خلال الخرائط الطبوغرافية في ستينيات القرن الماضي وإعادة اكتشاف مشاهد الحماية التقليدية

بقلم
بلال علويّه
خبير في الاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية
متخصص في الحوكمة البيئية المكانية ورسم خرائط التنوع البيولوجي

عند العودة إلى الخرائط الطبوغرافية الرسمية التي أُعدّت في لبنان قبل أكثر من ستة عقود، تتكشّف حقيقة هادئة لكنها عميقة الدلالة. فقبل المفاهيم الحديثة لحماية الطبيعة، وقبل نظم المعلومات الجغرافية والمؤشرات البيئية، كانت المجتمعات المحلية في لبنان تمارس نظامًا متكاملًا لإدارة الموارد الطبيعية عُرف باسم “الحِمى”. هذا النظام لم يكن فكرة نظرية أو إرثًا شفهيًا فحسب، بل كان حاضرًا بوضوح في الفضاء المكاني المرسوم على الخرائط الرسمية للدولة.

نظام حماية منقوش في الجغرافيا

يُعد نظام الحِمى من أقدم نماذج الإدارة المجتمعية للموارد الطبيعية في شرق المتوسط. فقد استند تاريخيًا إلى الحوكمة الجماعية، والأعراف المحلية، وتقاسم المسؤوليات، لتنظيم الوصول إلى المراعي والغابات والينابيع والأراضي المشتركة، بهدف تحقيق التوازن البيئي وضمان الاستدامة طويلة الأمد.

في الخطاب المعاصر، غالبًا ما يُنظر إلى الحِمى بوصفه ممارسة ثقافية غير ملموسة أو نموذجًا أعيد إحياؤه لمواجهة تحديات بيئية حديثة. غير أن قراءة علمية أدق للتاريخ المكاني للبنان تكشف بُعدًا مختلفًا. فالخرائط الطبوغرافية التي أُنتجت في ستينيات القرن الماضي، نتيجة عمليات مسح منهجية نفّذها الجيش اللبناني، توثّق بشكل صريح وجود الحِمى كعنصر معترف به في التنظيم الترابي للدولة.

الحِمى على الخريطة، حرفيًا

تُظهر مراجعة أولية لهذه الخرائط ظهور مصطلح “الحِمى” في مناطق لبنانية متعدّدة ومتباعدة جغرافيًا. ففي دار شمزين في قضاء الكورة، يظهر الاسم كمعلم مكاني معترف به. وفي بلدة حداثا في قضاء بنت جبيل، يُسجَّل المصطلح ضمن التسمية الرسمية. أما في بيصور في قضاء عاليه، فيرد “الحِمى” ضمن الأسماء الجغرافية المحلية. ويبرز مثال “عين الحِمى” في سهل الميدنة قرب كفرمان في قضاء النبطية، حيث يرتبط الاسم مباشرة بمورد مائي، ما يعكس العلاقة التاريخية الوثيقة بين الحِمى وحماية الينابيع والمياه.

هذا الانتشار الجغرافي، من شمال لبنان إلى جبل لبنان والجنوب، يؤكد أن الحِمى لم يكن ممارسة محلية معزولة، بل نظامًا واسع الانتشار، متجذرًا في البنية البيئية والاجتماعية للبلاد.

لماذا تهمنا الذاكرة المكانية اليوم؟

إن توثيق مواقع الحِمى التاريخية ورسمها على الخرائط لا يقتصر على البعد الأكاديمي. بل يشكّل خطوة استراتيجية لإعادة ربط لبنان بإرثه البيئي. فالخرائط تحوّل السرد التاريخي إلى معطيات مكانية قابلة للتحقق، وتمنح مبادرات إحياء الحِمى التي تقودها جمعية حماية الطبيعة في لبنان أساسًا تاريخيًا راسخًا، يؤكد الاستمرارية بدل القطيعة.

كما يساهم هذا العمل في دعم التخطيط المكاني والحوكمة البيئية، عبر تحديد مناطق ارتبطت تاريخيًا بالحماية، لا سيما حول الينابيع والغابات والأراضي الرعوية. وعند دمج هذه المعطيات مع بيانات حديثة مثل مناطق التنوع البيولوجي الهامة، والشبكات الهيدرولوجية، وخدمات النظم البيئية، تتكشف أنماط لا تزال ذات صلة بالواقع البيئي الحالي.

إضافة إلى ذلك، تمتلك الخرائط قوة تواصلية استثنائية. فهي أدوات بصرية فعّالة للتوعية والتعليم والحوار مع صانعي القرار والجهات المانحة، وتجعل تاريخ الحماية البيئية متاحًا ومفهومًا لمختلف الفئات.

من خرائط ورقية إلى معرفة رقمية

يتطلب تحويل خرائط تعود إلى ستينيات القرن الماضي إلى أداة علمية معاصرة منهجية دقيقة. تعتمد SPNL مقاربة علمية قائمة على نظم المعلومات الجغرافية. تبدأ بجمع الخرائط الطبوغرافية الرسمية وتوثيق بياناتها الأساسية، من سنة الإصدار إلى المقياس ورقم اللوحة والجهة المُصدِرة.

يتم بعد ذلك استخراج جميع أسماء المواقع التي تتضمن مصطلح الحِمى أو مشتقاته، مثل عين الحِمى أو وادي الحِمى. وعند توفر الخرائط بصيغة ورقية أو ممسوحة ضوئيًا، تُجرى عملية الإسناد الجغرافي باستخدام نقاط مرجعية ثابتة. ثم تُرقمن مواقع الحِمى كنقاط أو كمضلعات، بحسب طبيعة الموقع وإمكانية تقدير امتداده المكاني.

تُخزَّن هذه البيانات ضمن قاعدة وطنية تاريخية للحِمى، مرفقة بسمات تشمل الموقع الإداري، والسياق البيئي، ومصدر الخريطة، ومستوى الثقة. وتُجرى لاحقًا تحليلات مكانية لدراسة التوزع، والقرب من الموارد المائية والغابية، وأنماط التجمّع، والتقاطع مع طبقات الحماية الحديثة.

مخرجات منتظرة

من المتوقع أن يثمر هذا العمل عن إعداد خريطة وطنية لمواقع الحِمى التاريخية في لبنان، وإنشاء قاعدة بيانات جغرافية قابلة للتحديث المستمر، وإطلاق StoryMap تفاعلية تربط الماضي بالحاضر، إلى جانب تقرير علمي تقني يدعم التخطيط البيئي والحوار السياساتي.

قراءة علمية متأنية

من الضروري التأكيد أن وجود مصطلح الحِمى على خريطة تعود إلى ستينيات القرن الماضي لا يعني بالضرورة استمرار إدارة الموقع كنظام حِمى حتى اليوم. تختلف دقة الخرائط ومقاييسها، وقد تبقى الأسماء رغم تغيّر أنماط استخدام الأراضي. لذلك، تُعتمد مستويات ثقة مختلفة، وتُستكمل النتائج، حيث أمكن، بالتحقق الميداني والمعرفة المحلية.

استعادة سردية وطنية للحماية

إن توثيق الحِمى في الخرائط الطبوغرافية الرسمية يؤكد أن هذا النظام ليس مجرد ذاكرة ثقافية، بل نموذج إدارة أراضٍ متجذر في الجغرافيا اللبنانية. ومن خلال تحديد هذه المواقع وتحليلها، تعزز SPNL الأساس العلمي لإحياء الحِمى، وتربط المعرفة التقليدية بأدوات الحوكمة البيئية الحديثة، وتعيد تقديم الحِمى كنموذج ذي أهمية وطنية ودولية.

في زمن تتصاعد فيه الضغوط البيئية، قد تكون العودة إلى ما رُسم على الخرائط قبل عقود خطوة أساسية لحماية ما تبقّى من الطبيعة.

مجلة الحمى العدد السادس

أصدرت جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) العدد السادس من مجلة "الحمى"، والذي يركّز على المؤتمر العالمي لحماية الطبيعة التابع للاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN) المزمع عقده في أبوظبي بين 8 و15 تشرين الأول 2025، حيث ستشارك الجمعية في أربع جلسات رئيسية. يتضمّن هذا العدد مقابلة حصرية مع رئيسة الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة، رزان المبارك، التي شدّدت على أهمية مواءمة عمل الاتحاد مع الأجندات العالمية للتنوّع البيولوجي، وتعزيز الحوكمة والاستجابة لاحتياجات الأعضاء، وتفعيل الانخراط المتعدد الأطراف، وضمان الاستخدام الأخلاقي للتكنولوجيا، ورفع أصوات المجتمعات المتنوعة في مسيرة حماية الطبيعة.

اقرأ الأعدادَ السابقة

spot_img
spot_img

تصفح المزيد

من التوعية إلى الشراكة، كيف تتحوّل مكافحة الصيد الجائر...

في قلب البقاع الشمالي، حيث تتقاطع الطبيعة مع نمط عيش المجتمعات المحلية، احتضن اتحاد بلديات دير الأحمر...

حين تلتقي الحكمة القديمة بسرد القصص القصيرة كيف قدّم...

في عالم رقمي تحكمه السرعة ويقاس فيه النجاح بعدد الثواني، ينجح بعض المحتوى في إيقاف التمرير وإجبارنا...

توقيفات بحق ممارسي الصيد الجائر في عدد من المناطق...

في إطار الجهود المستمرة لمكافحة الصيد غير المشروع وحماية التنوع البيولوجي في لبنان، وبناءً على شكاوى واردة...