في صباحٍ مشبعٍ برائحة الصنوبر وأصوات الخطوات الأولى على التراب، انطلق مسار الصفا من بلدة بتاتر باتجاه بلدة الغابون، ليس كطريقٍ رياضي فحسب، بل كجسرٍ حيّ يعيد وصل القرى اللبنانية ببعضها البعض. على هذا المسار، شاركت جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) في نشاط رياضي بيئي حمل في طياته أكثر من معنى، الرياضة كفعل صحي، والطبيعة كهوية، والدروب كذاكرة جماعية.
لم يكن الحدث مجرد رحلة مشي أو سباق في أحضان الطبيعة. كان محاولة واعية لإحياء الدروب التقليدية التي شكّلت تاريخيًا شرايين التواصل بين القرى، ومسارات للتبادل الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، قبل أن تهمّشها الطرق الحديثة أو تطمسها العشوائية العمرانية.
الدرب كفكرة… وكخيار تنموي
تنظر SPNL إلى الدروب لا بوصفها مسارات طبيعية فقط، بل كخيار تنموي مستدام. فربط القرى عبر شبكة من الدروب البيئية والتراثية يفتح الباب أمام السياحة البيئية المسؤولة، ويخلق فرصًا اقتصادية محلية، من الإرشاد السياحي إلى الضيافة الريفية، دون الإضرار بالبيئة أو استنزاف الموارد.
وخلال النشاط، أُتيحت للمشاركين فرصة التعرّف عن قرب على القيمة البيئية للمنطقة، بما تحتويه من غابات غنية، ونباتات محلية، وحياة برّية تشكّل جزءًا من التنوع البيولوجي الذي تتميّز به هذه الرقعة من لبنان. كما جرى تسليط الضوء على دروب الحِمى بوصفها مساحات محمية تُدار بالشراكة مع المجتمع المحلي، وفق نموذج يوازن بين الحماية والاستخدام المستدام.
الرياضة بوابة للوعي
لم يقتصر البرنامج على الجانب الرياضي. فعلى امتداد المسار، توقّف المشاركون عند محطات تعريفية تناولت المعالم الأثرية، والثقافية، والدينية التي تمر بها الدروب، ما حوّل الرحلة إلى تجربة معرفية تعزّز الارتباط بهوية القرى وتاريخها.
بهذا المعنى، شكّل النشاط مساحة تفاعلية جمعت بين الحركة والوعي، وبين الجسد والذاكرة. فالرياضة هنا لم تكن غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لإعادة بناء علاقة الإنسان بأرضه، وتشجيعه على حمايتها من خلال فهمها وتقديرها.
الطبيعة كرافعة للمجتمع
تؤكد جمعية حماية الطبيعة في لبنان أن مثل هذه الأنشطة تتجاوز بعدها الرمزي، لتشكّل أدوات عملية في مسار طويل نحو تنمية محلية متوازنة. فحين تُدار الطبيعة بمشاركة أهلها، تصبح مصدر فخر وفرص، لا عبئًا أو مساحة محظورة.
في بلدٍ يواجه أزمات متراكمة، من اقتصادية إلى بيئية، تبدو هذه المبادرات بمثابة تذكير بسيط وعميق في آن، أن الحلول قد تبدأ بخطوة على دربٍ قديم، وبفكرة تعيد وصل الإنسان بجغرافيته، وقريته بجارتها، والطبيعة بمستقبلٍ أكثر استدامة.
وعلى دروب الحِمى، لا تنتهي الرحلة عند خط الوصول، بل تبدأ قصة جديدة، عنوانها الشراكة، والانتماء، وحماية ما تبقّى للأجيال القادمة.







