بقلم أسعد سرحال
في قلب جبل لبنان، تتبلور مبادرة بيئية بارزة. فقد بدأ يتشكّل أول منتزه طبيعي رسمي في قضاء المتن الأعلى، مدفوعًا بمقاربة الحِمى التاريخية في الحفاظ على البيئة، ومدعومًا بتعاون واسع يشمل البلديات، والمؤسسات الوطنية، والمجتمع المدني.
جمعية حماية الطبيعة في لبنان على الأرض: قيادة، رؤية، وزخم
بدعوة من رئيس بلدية رأس المتن، الأستاذ بسام أنور مكارم، وجمعية المتن للبيئة والتنمية المستدامة (MESD)، التقيت اليوم بالقادة المحليين واتحاد بلديات المتن الأعلى برئاسة الأستاذ كريم سركيس. وقد تُوّج اللقاء باتخاذ قرار بتشكيل فريق عمل متخصص لدعم وتوجيه مبادرة منتزه المتن الأعلى، بالتنسيق الوثيق مع جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL).
عقب الاجتماع، وبرفقة الأستاذ جواد نويهض، والأستاذ رفيق مكارم من جمعية MESD، قمت بجولة ميدانية في عدد من المواقع الأساسية في رأس المتن. شملت الجولة مركز “لبكرة” للحرف اليدوية، والتحسينات الجارية ضمن حمى رأس المتن—مثل مسارات المشي الجديدة، وبركة المياه المُجدّدة، والساحة العامة الصديقة للمسنين. وقد اختُتم اليوم بجلسات تخطيط استراتيجي إلى جانب رئيس البلدية مكارم، لوضع أسس المرحلة المقبلة من التنمية البيئية والمجتمعية في المنطقة.
تتصل هذه الجهود بالزخم الوطني الذي تقوده جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) نحو إرساء إطار قانوني ومؤسساتي يستند إلى قانون المحميات في لبنان رقم 130/2019، إضافة إلى الميثاق البيئي للتنمية المستدامة. وقد انضمت خمس حِمى في المتن الأعلى بالفعل إلى ميثاق المنتزه، ما يُظهر استعداد المجتمع المحلي والتزامه بالمبادرة.
إحياء ممارسة حفظ الطبيعة المتجذّرة منذ قرون
تم إحياء نموذج الحِمى—وهو نظام عربي تقليدي يقوم على إدارة الموارد الطبيعية بقيادة المجتمع المحلي—من قبل جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) لتمكين البلديات والمجتمعات المحلية من إدارة الغابات والحياة البرية ومجاري المياه بشكل مستدام.
في رأس المتن، تدعم فسيفساء من غابات السنديان والبطم والعرعر تنوّعًا بيولوجيًا غنيًا يشمل الثعالب الحمراء، النمس، ابن آوى الذهبي، الخنازير البرية، وأنواعًا مهاجرة من الكائنات الحية—فيما تستضيف منحدرات البلدة مجموعات نابضة من الفراشات. وقد أُعلنت المنطقة حِمى في عام 2018، اعترافًا بأهميتها البيئية، لا سيما كممرّ رئيسي لهجرة نحو 40 نوعًا من الطيور.
نسج منتزه وطني، حِمى بعد حِمى
تتطلّع الرؤية الطموحة لجمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) لعام 2025 إلى ربط عدة مناطق حِمى—من بينها رأس المتن، العبّادية، قرنايل، وبتحثم—ضمن إطار موحّد لمنتزه طبيعي يمتدّ على مساحة 70 كلم² في وادي نهر بيروت. ويهدف هذا المشروع إلى إنشاء أول منتزه طبيعي في لبنان يدمج بين النُظم البيئية، والمجتمعات، والمناظر الثقافية.
بدعم من الاتحاد الأوروبي عبر مشروع BioConnect، ومن الوكالة السويسرية للتنمية والتعاون (SDC)، نعمل على حماية التنوع البيولوجي، وتعزيز خدمات النظام البيئي، وتشجيع التنمية المجتمعية المستدامة في أعالي وادي نهر بيروت.
تشمل هذه المبادرة المتكاملة: تأسيس حِمى جديدة، والدفع باتجاه إعلان أول منتزه طبيعي في لبنان، وإجراء تقييمات للتنوّع البيولوجي، وتطوير خطط إدارة مستدامة. وتتضمّن الإجراءات المجتمعية مواجهة التحديات البيئية الملحّة، كإعادة تشجير المناطق العازلة، ومراقبة جودة وكمية المياه، وتحسين إدارة النفايات الصلبة، والحد من الصيد غير المشروع.
من خلال التعليم البيئي، وحملات التوعية، والمشاركة الفاعلة لأصحاب المصلحة، يسعى المشروع إلى ترسيخ مبدأ الحوكمة البيئية طويلة الأمد وتحسين جودة الحياة للمجتمعات المحلية على امتداد الوادي.
مشاركة المجتمع على أرض الواقع
خلال معرض محفّز بعنوان “نسج أول منتزه طبيعي في لبنان، حِمى بعد حِمى”، شدد قادة المجتمع، وممثلو البلديات، والمدافعون عن البيئة على أهمية وضع القرارات في أيدي الفاعلين المحليين. ويؤكّد هذا النهج على حماية التنوع البيولوجي بالتوازي مع التنمية المحلية، بما ينسجم مع رسالة SPNL طويلة الأمد في تمكين المجتمعات.
في عام 2025، انضمّت بلديات العبّادية وقرنايل وبتحثم رسميًا إلى الشبكة الوطنية المتنامية للحِمى في لبنان، ما شكّل خطوة كبيرة في مجال الحفاظ المجتمعي على البيئة. وبإرشاد تقني من SPNL، تبنّت هذه البلدات مقاربة الحِمى لإدارة وحماية تراثها الطبيعي المحلي بشكل مستدام—بدءًا من المرتفعات الحرجية والأراضي الزراعية التقليدية، وصولًا إلى مصادر المياه الحيوية وممرات الحياة البرية.
ومن خلال انضمامها إلى الشبكة، التزمت هذه البلديات بتعزيز الحوكمة البيئية، ودعم التنوع البيولوجي، ودمج المعرفة المحلية والمشاركة الشعبية في إدارة الموارد الطبيعية. ويعزز انخراطها ليس فقط الترابط البيئي في منطقة المتن الأعلى، بل أيضًا مكانة لبنان كقائد إقليمي في إحياء نموذج الحِمى لخدمة الإنسان والطبيعة معًا.
أهداف SPNL الاستراتيجية لعام 2025
تتضمن الاستراتيجية طويلة الأمد لـ SPNL توسيع شبكة الحِمى، وتدريب “حرّاس الحِمى”، وتطوير مسارات للسياحة البيئية، ودعم سُبل عيش تقودها النساء ضمن مبادرة “سوق الحِمى”، وتحويل مركز الحِمى التابع لـ SPNL إلى مركز للتنوّع البيولوجي. وبفضل الحوكمة المحلية والانخراط في التراث الثقافي، يحمل هذا المنتزه الطبيعي وعدًا بمقاومة بيئية وإحياء تنموي للمنطقة.
مستقبل تعاوني
مع التقدّم في إجراءات المصادقة الرسمية—من وزارة البيئة برئاسة الوزيرة تمارا زين، وشركاء دوليين كالسفارة السويسرية، وSDC، وEU BioConnect، وSRT، وHWF—يُتوقّع إطلاق المشروع رسميًا في أيلول 2025.
أتقدّم بجزيل الشكر لشركائنا—SPNL، وMESD، وقادة البلديات، والداعمين من المجتمع المحلي إلى الجهات الرسمية. إنّ مسار لبنان نحو إنشاء أول منتزه طبيعي لا يقتصر على حماية الطبيعة، بل يتمثل أيضًا في نسج المجتمعات داخل نسيج المكان، واحترام التقاليد، وإلهام إرث مستدام للأجيال القادمة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.