في ساعات الصباح الأولى، وبين اغصان الصنوبر البري التي تتمايل على وقع النسيم قرب مُستنقعات عمّيق شرق سهل البقاع اللبناني، تجلّت لحظة نادرة تخطف الأنفاس. طائر أبو منجل اللامع (Plegadis falcinellus)، بريشه المتلألئ بألوان البرونز والأخضر القزحي، يطعم فرخه الصغير بهدوء في المياه الضحلة. مشهد مؤثر لم يكن يتوقّعه أكثر المتفائلين من خبراء الطيور في لبنان، ليُسجّل بذلك حدثاً استثنائياً يُضاف إلى سجلات التنوع البيولوجي في البلاد.
هذا الرصد النادر وثّقه بعدسة مدير مرصد حمى حمانا لمراقبة الطيور الجارحة التابع لجمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) شادي سعد، خلال زيارة ميدانية إلى مُستنقع عمّيق. وبفضل صبره وحسّه الميداني العالي، التُقطت صور توثّق لحظة حانية بين الطائر وفرخه، تُعتبر الأولى من نوعها في لبنان.
جوهرة تتلألأ في احضان الطبيعة
يُعدّ طائر أبو منجل اللامع واحداً من أجمل الطيور المائية وأكثرها غرابة. يمتلك هذا الطائر سيقاناً طويلة ومنقاراً مقوّساً مميزاً يُشبه المنجل، وريشاً يلمع بألوان خضراء وبرونزية وأرجوانية متلألئة تحت أشعة الشمس، خاصة في موسم التكاثر.
رغم انتشاره الواسع في مناطق متفرقة من إفريقيا وأوروبا وآسيا وأستراليا وأمريكا، فإنّ ظهوره في لبنان يُعدّ نادراً للغاية. وعلى الرغم من أنّ الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN) يصنّفه ضمن الطيور الأقل قلقاً من ناحية الانقراض، إلّا أنّ مراقبته وهو يُطعم فرخه داخل الأراضي اللبنانية حدث فريد يحمل دلالات بيئية مهمّة.
يتغذّى هذا الطائر عادةً في الأراضي الرطبة والمستنقعات والمسطحات المائية الضحلة، حيث يستخدم منقاره الطويل للبحث عن الحشرات، القشريات، البرمائيات والأسماك الصغيرة. إلا أنّ مشاهدته برفقة فرخه تدلّ على أكثر من مجرد زيارة عابرة، بل تُلمّح إلى احتمالية التكاثر أو التوقف لفترات طويلة في لبنان، وهو أمر نادر يستحق التوثيق والدراسة.
عمّيق: واحة للطيور المهاجرة
تُعتبر مُستنقعات عمّيق، الواقعة في قلب سهل البقاع اللبناني، أكبر منطقة رطبة متبقية في البلاد، وواحدة من أبرز مواقع التنوع البيولوجي في الشرق الأوسط. ويُشكّل هذا الموقع جزءاً من محمية الشوف للمحيط الحيوي، كما أُدرج ضمن قائمة “رامسار” للأراضي الرطبة ذات الأهمية الدولية.
يوفّر هذا النظام البيئي الفريد موئلاً آمناً لما يزيد عن 250 نوعاً من الطيور المقيمة والمهاجرة، بينها أنواع مهددة عالمياً مثل العقاب الإمبراطوري وطائر الكروان العظيم. وتُعدّ عمّيق محطة استراتيجية للطيور المُحلّقة خلال هجرتها الموسمية بين أوروبا وآسيا وإفريقيا.
بالنسبة لشادي سعد، الذي يكرّس حياته لمراقبة الطيور وحمايتها، تُجسّد عمّيق أكثر من مجرد مُستنقع طبيعي، بل هي مختبر حيّ للتنوع البيولوجي ومنصة للتوعية البيئية.
ويقول شادي: “رؤية طائر أبو منجل اللامع يُطعم فرخه في عمّيق لحظة مؤثرة للغاية، وتأكيد على أنّ الجهود التي بذلناها لحماية هذا الموئل بدأت تؤتي ثمارها. إنّ الطيور المهاجرة رمز للأمل والقدرة على التجدّد، وهذه اللحظة تجسّد هذا المفهوم بامتياز”.
تسجيل نادر ذو دلالات بيئية عميقة
إنّ وجود فرخ صغير يتغذى في عمّيق يُشير إلى احتمالين مهمّين؛ إما أنّ الطيور قامت بالتكاثر في محيط الموقع، أو أنّ المُستنقع يُوفّر ظروفاً بيئية ملائمة للتوقف الطويل وتربية الصغار خلال الهجرة، وكلا الاحتمالين لهما أبعاد بيئية إيجابية.
عادةً، يُشكّل طائر أبو منجل اللامع مستعمرات تكاثرية مشتركة مع طيور البلشون والبجع، حيث تبني أعشاشها في الأشجار المنخفضة أو وسط النباتات المائية. وعلى الرغم من اتساع نطاقه في بعض الدول الأوروبية، إلّا أنّ سجلات تكاثره في لبنان نادرة جداً، ما يجعل هذا الحدث جديراً بالمتابعة العلمية الدقيقة.
وتؤكّد منظمة بيردلايف العالمية (BirdLife International) أنّ الأنواع المائية مثل أبو منجل اللامع تواجه تحديات جمّة بسبب تدهور الأراضي الرطبة، سواء من خلال التوسع العمراني، التلوث، تغيّر المناخ، أو التعديات غير القانونية. غير أنّ ما حققته عمّيق في السنوات الأخيرة يُثبت أنّ الحماية الفعّالة قادرة على إعادة التوازن لهذه الأنظمة البيئية الهشّة.
أمل جديد من قلب الحِمى
يعكس هذا الحدث النادر نجاح المبادرات المحلية التي تتبنّاها جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL)، وعلى رأسها إحياء مفهوم “الحِمى”، وهو نموذج تقليدي لإدارة الموارد الطبيعية يعتمد على إشراك المجتمعات المحلية في حماية الأراضي والتنوّع البيولوجي.
في مرصد الحِمى الحماني لمراقبة الطيور الجارحة، يُشرف شادي سعد وفريقه على عمليات الرصد والتوعية البيئية، بهدف خلق جيل جديد من الشباب المؤمن بأهمية حماية الطيور ومواطنها الطبيعية.
ويضيف شادي: “هذا الطائر يُذكّرنا بأنّ الطبيعة قادرة على التعافي حين نحميها. عندما نوفر للطيور أماكن آمنة للتغذية والراحة والتكاثر، فإنّها تكافئنا بوجودها المُبهر”.
المستقبل: حماية ورصد مستمر
يفتح هذا الرصد الباب أمام العديد من الأسئلة العلمية الهامّة: هل هو حدث فردي، أم بداية لعودة منتظمة لهذا النوع إلى عمّيق؟ وهل بدأت الطيور تجد في لبنان ملاذاً آمناً وسط التغيرات المناخية وتقلّبات أنماط الهجرة؟
لحظة تأمل
مع تصاعد ضوء الشمس فوق سهل البقاع، وبين أمواج الماء التي تتلألأ كالمرايا، التقطت عدسة شادي اللحظة التي سيبقى صداها محفوراً في ذاكرة عُشاق الطيور؛ طائر أبو منجل اللامع، بريشه الأخّاذ، ومنقاره المقوّس، يطعم فرخه بكل عناية وسط أمان مُستنقعات عمّيق.
في بلد يُثقل كاهله الأزمات البيئية والتحديات السياسية، يُمثّل هذا المشهد رسالة أمل صامتة بأنّ الطبيعة قادرة على الصمود إذا مُنحت الفرصة. وللبنان، الذي يحتضن هذه اللحظات الاستثنائية في قلب مواقعه الطبيعية، يبقى الأمل مُعلّقاً على استمرارية حماية ثروته البيئية لأجيال قادمة.