قرنايل تعلن غابتها العامة “حِمى”… خطوة نوعية في حماية التراث البيئي اللبناني

في خطوة غير مسبوقة على صعيد حماية الطبيعة والتنمية المستدامة، اتخذت بلدية قرنايل قرارًا حاسمًا لحماية أغلى كنوزها الطبيعية: غابات الصنوبر المعمّرة. فقد أعلنت البلدة، الواقعة على تلال جبل لبنان الخضراء، عن اقتراح رسمي لتصنيف أراضيها العامة الواسعة كـ”حِمى” — وهي منطقة محمية تُدار من قبل المجتمع المحلي، تستند إلى تقاليد لبنانية عريقة تعود لقرون.

ويُجسد هذا القرار جزءًا من حركة وطنية متنامية لإحياء نموذج الحِمى، الذي يُعزز دور المجتمعات المحلية كحماة للبيئة، مع دعم السياحة البيئية، وحماية التنوع البيولوجي، وخلق مصادر عيش مستدامة.

غابة مهددة… وإرث يستحق الحماية

تُعد قرنايل موطنًا لإحدى أغنى غابات الصنوبر المثمر (Pinus pinea) في لبنان، وهي غابات تُشكل جزءًا لا يتجزأ من التراث الطبيعي الوطني، فضلًا عن كونها موردًا بيئيًا واقتصاديًا بالغ الأهمية لأهالي المنطقة. وتُساهم هذه الغابات بنسبة تصل إلى 18% من إجمالي غابات الصنوبر في جبل لبنان، موفّرة موائل طبيعية لا حصر لها للعديد من أنواع النباتات والحيوانات، وداعمة لسبل العيش التقليدية من خلال موسم جني الصنوبر.

غير أن هذا النظام البيئي الحيوي يواجه تهديدات متزايدة، من قطع الأشجار غير القانوني، وحرائق الغابات، والآفات الغازية، وصولًا إلى التوسع العمراني العشوائي والسياحة غير المنظّمة.

وإدراكًا لخطورة الوضع، أطلق مجلس بلدية قرنايل خطة طموحة لإعلان الأراضي العامة كمنطقة “حِمى”، ما يضعها رسميًا تحت مظلة الحماية البيئية، بالتعاون مع منظمات وطنية ودولية معنية بالحفاظ على البيئة.

الحِمى: الحل اللبناني العريق لتحديات البيئة المعاصرة

يُعتبر نظام الحِمى أحد أقدم نماذج الحفاظ على البيئة في العالم، حيث نشأ في شبه الجزيرة العربية، وامتد تطبيقه عبر منطقة الشرق الأوسط لأكثر من 1500 عام. ويقوم هذا النظام على مبدأ الإدارة المجتمعية للموارد الطبيعية، حيث تُدار هذه الموارد بشكل جماعي لصالح الجميع، بما يضمن الاستخدام المستدام ويحمي في الوقت ذاته التنوع البيولوجي.

وفي لبنان، أعادت جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) إحياء نموذج الحِمى منذ عام 2004، حيث تبنّته عشرات البلدات والقرى، من كفرزبد في البقاع إلى عين زحلتا في الشوف. وقد أثبتت هذه المجتمعات أن عندما يتولى الناس زمام المبادرة لحماية بيئتهم الطبيعية، يمكن للنظم البيئية والاقتصادات المحلية أن تزدهر معًا.

قال أسعد سرحال، مؤسس ورئيس جمعية “حماة الحِمى” الدولية (HHI)، والمدير العام لجمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL)، وعضو المجلس العالمي لمنظمة بيردلايف إنترناشونال عن منطقة الشرق الأوسط:
“قرنايل أصبحت اليوم جزءًا فخورًا من هذا الإرث العريق.”

قال سرحال:
“إحياء نظام الحِمى هو هدية لبنان لحماية الطبيعة في القرن الحادي والعشرين. هذا القرار يجسّد الروح الحقيقية للمسؤولية المحلية، حيث يزدهر الإنسان والطبيعة معًا. ومن الملهم أن نرى قادة البلديات، والأهالي، والشركاء الوطنيين يعملون جنبًا إلى جنب لحماية أحد كنوز لبنان البيئية.”

خارطة طريق للحفاظ على البيئة والتنمية المستدامة

من المقرّر أن تشمل منطقة الحِمى المقترحة في قرنايل الغابة البلدية الرئيسية، والمناطق الحرجية المحيطة، والموائل الأساسية للحياة البرية، إضافةً إلى المسارات الطبيعية التي تستقطب هواة المشي والطبيعة من مختلف أنحاء البلاد، بما في ذلك المسار الدائري حول بحيرة قرنايل.

وتتضمن المبادرة خطة عمل شاملة تشمل:

✔ التصنيف الرسمي للحِمى وفقًا لقانون حماية المواقع الطبيعية في لبنان رقم 130/2019.
✔ تشكيل لجنة محلية خاصة بالحِمى تضمّ أعضاء من المجتمع المحلي، وناشطين بيئيين، وممثلين عن البلدية.
✔ التعاون مع وزارة البيئة، وزارة الزراعة، جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL)، مبادرة التحريج في لبنان (LRI)، وشركاء أساسيين آخرين.
✔ تطوير بنية تحتية للسياحة البيئية، بما في ذلك مسارات للمشي، مركز زوار، لوحات إرشادية تعليمية، وتدريب مرشدين محليين للطبيعة.
✔ تنفيذ استراتيجيات الوقاية من الحرائق، مكافحة الآفات، واستعادة الغابات بالتعاون مع وحدات الدفاع المدني.
✔ إطلاق برامج توعية بيئية في المدارس والمراكز المجتمعية.
✔ مراقبة دورية لصحة النظام البيئي في الغابة بالتعاون مع جمعية حماية الطبيعة والجهات الحكومية المختصة.

نموذج وطني بأهمية عالمية

حظيت شبكة الحِمى في لبنان باعتراف دولي واسع، بما في ذلك دعم من الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة (IUCN) ومنظمة بيردلايف إنترناشونال، تقديرًا لمزجها المبتكر بين التراث الثقافي وأحدث أساليب الحفاظ على البيئة. ويتماشى مشروع حِمى قرنايل مع الأهداف البيئية العالمية، لا سيّما أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة في مجالات العمل المناخي، حماية التنوع البيولوجي، وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام.

وبالنسبة لجمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL)، التي تقود جهود إحياء الحِمى منذ أكثر من عقدين، فإن حِمى قرنايل تمثل ليس فقط انتصارًا بيئيًا، بل شهادة حية على ما يمكن تحقيقه عندما تستعيد المجتمعات المحلية دورها الطبيعي كحماة للبيئة.

واختتم سرحال بالقول:
“قصة قرنايل تذكّرنا بأن حماية البيئة ليست مسؤولية الحكومات وحدها، بل هي واجب وامتياز لكل مواطن، وكل عائلة، وكل بلدة. معًا، نكتب فصلًا جديدًا في تاريخ غابات لبنان، فصلًا عنوانه الاحترام، والتقاليد، والأمل بمستقبل أفضل.”

عن جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) ونهج الحِمى

تُعدّ جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) أقدم منظمة غير حكومية بيئية في لبنان، وإحدى الجهات الرائدة إقليميًا في مجال الحفاظ على التنوع البيولوجي. وبصفتها الشريك الرسمي لمنظمة بيردلايف إنترناشونال في لبنان، لعبت الجمعية دورًا محوريًا في إحياء نموذج الحِمى، حيث دعمت عشرات المجتمعات المحلية في إنشاء مناطق محمية تسهم في الحفاظ على الطبيعة، وصون التراث الثقافي، وتعزيز التنمية المستدامة.

ومن خلال مبادرات مثل حِمى قرنايل، تواصل الجمعية رسالتها الرامية إلى ضمان بقاء غابات لبنان، وحياته البرية، وطبيعته الخلابة محفوظة للأجيال القادمة، حيث يعيش الإنسان والطبيعة في انسجام وتكامل.

مجلة الحمى العدد الخامس

في هذا العدد من مجلة الحمى، ننسج معًا قصصًا ملهمة عن حماية الطبيعة وصمود المجتمعات، مسلطين الضوء على كيف يُعاد ترميم لبنان... حمى تلو الأخرى. تواصل جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) مهمتها في الحفاظ على التراث الطبيعي للبلاد من خلال تمكين المجتمعات المحلية. ومن الركائز الأساسية لهذا الجهد مشروع BioConnect المموّل من الاتحاد الأوروبي، والذي حقق ثلاث سوابق وطنية: أول منتزه طبيعي في لبنان (المتن الأعلى)، وأول منتزه جيولوجي (الشوف – جزين)، وأول حمى وقفية (بتخنيه).

اقرأ الأعدادَ السابقة

spot_img
spot_img

تصفح المزيد

A tranquil path leads through a vibrant Hima site, where wildflowers bloom and cedar forests thrive under Lebanon’s summer skies. This landscape reflects the harmony between nature and community conservation. Photo Credit: Spyro Klitira

الاعتراف الرسمي بمواقع الحمى في لبنان ضمن قاعدة بيانات...

تعلن جمعية حماية الطبيعة في لبنان (SPNL) بكل فخر عن إدراج 27 موقع حمى في مختلف أنحاء...

بلدة حمانا تستضيف المعرض المتنقل لجمعية حماية الطبيعة في...

برعاية كريمة من رئيس بلدية حمانا الدكتور أمين لبوس، وبالتعاون مع بلدية حمانا، أطلقت جمعية حماية الطبيعة...

طلاب الجامعة الأميركية في بيروت ينضمون إلى مزرعة الحمى...

في خطوة تعكس التزام الشباب اللبناني بحماية الطبيعة وتعزيز التنمية المستدامة، شارك عدد من طلاب الجامعة الأميركية...